تتصاعد التحديات البيئية عالمياً بوتيرة غير مسبوقة، وتبرز قضية المياه في صدارة هذه التحديات بوصفها المورد الأثمن الذي يسعى الإنسان لصونه والمحافظة عليه. فالمياه هي شريان الحياة الذي يواجه مخاطر الاستنزاف والتلوث والتقلبات المناخية الحادة. ومع أن الصورة تبدو قاتمة في كثير من المناطق، فإن الأمل يبرز من خلال ثورة تكنولوجية يقودها الذكاء الاصطناعي، تلك الأداة التي أصبحت أكثر نضجاً وفاعلية، وتجاوزت حدود التوقعات التقليدية.
لم يعد السؤال اليوم هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينقذ مواردنا المائية، بل أصبح كيف نستطيع توظيف هذه التقنية بكفاءة وعدالة كيف يمكن لخوارزميات متقدمة أن تحلل أنماط الأمطار، وتتنبأ بفترات الجفاف، وترشدنا إلى الاستخدام الأمثل لكل قطرة ماء إننا لا نتحدث عن أدوات تقنية فحسب، بل عن فلسفة متكاملة لإدارة الموارد، تنقلنا من ردود الأفعال إلى الاستباقية، ومن التخمين إلى الدقة، ومن الهدر إلى الاستدامة. إنها رحلة جماعية نحو إعادة تشكيل مستقبل المياه، رحلة يمكن لكل فرد ومؤسسة ومجتمع أن يكون جزءاً فاعلاً فيها، حيث تتصالح الطبيعة مع التقنية، ويصبح القرار البيئي أكثر وعياً ومسؤولية.
بقلم: د. هبة محمد إمام – استشاري وخبير بيئي
مفهوم إدارة الموارد المائية بالذكاء الاصطناعي
تُعنى إدارة الموارد المائية المعززة بالذكاء الاصطناعي بتطبيق الخوارزميات والتقنيات الذكية لتحليل البيانات المائية الآتية من مصادر متعددة، بهدف دعم اتخاذ قرارات دقيقة وسريعة وشفافة. ولا يقتصر الأمر على الأتمتة، بل يمتد ليشمل التعلم الآلي والتعلم العميق، والرؤية الحاسوبية، وتحليلات البيانات الضخمة، والشبكات العصبية، والنمذجة التنبؤية، فضلاً عن تقنيات إنترنت الأشياء التي تمكّن من جمع البيانات لحظياً من الحقول، والمحطات، والسدود، والشبكات.
تعتمد هذه المنظومة على دمج بيانات الأقمار الصناعية، ومحطات الأرصاد، وأجهزة الاستشعار الميدانية، وسجلات الاستهلاك، وبيانات جودة المياه. وبفضل الخوارزميات الحديثة، يمكن الكشف عن الأنماط الخفية، والتنبؤ بالأحداث المستقبلية مثل الجفاف المتدرج أو مخاطر الفيضانات المفاجئة في الأحواض المائية المنخفضة. وهكذا تنتقل الإدارة من معالجة الأزمات بعد وقوعها إلى استباقها وتخفيف آثارها.
المدن الذكية وشبكات توزيع المياه
تواجه المدن الكبرى تحدياً في إدارة شبكات مياه معقدة تمتد لمئات الكيلومترات، وتضم آلاف العقد والأنابيب والخزانات. يتيح الذكاء الاصطناعي مراقبة تدفق المياه في الزمن الحقيقي، والكشف المبكر عن التسربات والأعطال عبر تحليل أنماط الضغط والتدفق واستهلاك المستخدمين. فإذا ظهر نمط استهلاك غير معتاد في منطقة معينة، يمكن للنظام أن يحدده بسرعة ويقترح موقعاً مرجحاً للتسرب، بل ويقدّر حجمه وتأثيره على التوزيع.
لا يقتصر ذلك على خفض الفاقد المائي، بل ينعكس أيضاً على كفاءة الطاقة وتقليل تكاليف التشغيل والصيانة. فالتنبؤ بالأعطال والتحرك الاستباقي، وتوجيه الموارد إلى المواقع الأكثر حاجة، يقلل زمن الانقطاع ويحسّن الخدمات. وعندما تُدمج هذه المنظومات مع عدادات ذكية، يصبح تسعير المياه أكثر عدلاً، ويحفَّز المستهلك على السلوك الرشيد من خلال تعرفة ديناميكية قائمة على الاستهلاك والوقت.
إدارة الفيضانات والتكيّف مع الجفاف
تشهد العديد من الدول موجات متطرفة من الأمطار والسيول يقابلها فترات ممتدة من الجفاف. يمكن لخوارزميات التعلم العميق من تحسين دقة التنبؤات بشكل ملحوظ من خلال استيعاب مجموعات بيانات ضخمة ومتنوعة تشمل السحب والرطوبة والتربة والتضاريس واستخدامات الأراضي. وبناء على ذلك، يمكن إدارة خزانات السدود بذكاء لتخفيف ذروة الفيضانات وتخزين كميات كافية لفترات الشح. كما يمكن للنماذج التنبؤية أن تقترح خطط طوارئ وتدابير حماية للمناطق الأكثر عرضة للمخاطر، مثل تحسين شبكات تصريف الأمطار وبناء حواجز مؤقتة، وتوجيه فرق الطوارئ إلى النقاط الحرجة.
أما على صعيد الجفاف، فيمكن أن تعمل الخوارزميات على تقدير معدلات الهطول والتبخر والنتح والنقص المتوقع في الموارد السطحية والجوفية. وبذلك تعد سياسات للترشيد مبكراً، وتُفعّل برامج تدوير المياه وإعادة استخدامها بتوقيت مناسب، ويُعاد توزيع الحصص بين القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة والسكان بما يحقق الحد الأدنى من العدالة ويقلل التكلفة الاقتصادية والاجتماعية.
الزراعة الذكية والري المعتمد على الذكاء الاصطناعي
يمثل القطاع الزراعي أكبر مستهلك للمياه العذبة عالمياً بما يقارب 70% من إجمالي الاستخدام. ومن ثم فإن رفع كفاءته يعد محورياً لتحقيق الاستدامة. هنا تبرز أنظمة الري الذكية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، التي توائم بين نوع المحصول، ومرحلة نموه، ورطوبة التربة، ونوعية الطقس، وطبيعة التربة والرياح والإشعاع الشمسي، لتحدد التوقيت الأمثل وكميات الري الدقيقة. وتُستخدم أجهزة استشعار رطوبة التربة وصور الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة لتحديث القرارات بشكل مستمر، ما يؤدي إلى خفض كبير في الهدر المائي وتحسن ملحوظ في الإنتاجية وجودة المحصول.
كما تتيح النماذج التنبؤية إدارة الأسمدة والمبيدات بدقة، لأن حالة الماء في التربة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفعالية الامتصاص والجريان السطحي. وهنا يتحقق هدفان في آن واحد: تقليل التكاليف وحماية البيئة من التلوث الناجم عن الإفراط في المدخلات. وفي البيئات القاحلة وشبه القاحلة، تُظهر الزراعة الدقيقة قيمة مضافة خاصة، إذ يمكن من خلال نظم جدولة الري الدقيقة الحفاظ على المحاصيل خلال موجات الحرارة الممتدة مع أدنى استهلاك ممكن للمياه.
جودة المياه ورقابة التلوث
لا تقل مشكلة جودة المياه خطورة عن ندرتها. فالتلوث الصناعي والزراعي والمنزلي يهدد الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية. هنا يقدم الذكاء الاصطناعي حلولاً نوعية عبر تحليل بيانات حساسات قياس العكارة، والأكسجين المذاب، والرقم الهيدروجيني، وتركيزات العناصر الثقيلة والملوثات العضوية. وتستطيع الخوارزميات الكشف المبكر عن الانحرافات الطفيفة التي قد لا تُرى بالطرق التقليدية، واقتراح بروتوكولات المعالجة المثلى بناءً على نوعية الملوث وتركيزه وتدفقات المياه الداخلة والخارجة.
وفي محطات المعالجة، يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين عمليات الترسيب والترشيح والتطهير، وضبط الجرعات تلقائياً لتحقيق أفضل توازن بين جودة المياه وتكاليف التشغيل واستهلاك الطاقة. كما يمكن التنبؤ بالأعطال في أحواض المعالجة ومضخاتها، وتخطيط الصيانة الوقائية بدقة، وتقليل الانقطاعات المفاجئة.
الأطر التنظيمية والحوكمة والعدالة المائية
لكي تؤتي هذه التقنيات عائد، لا بد من حوكمة رشيدة للبيانات والقرارات. فاعتماد الذكاء الاصطناعي يقتضي معايير واضحة لجودة البيانات، وسياسات صريحة لشفافية النماذج، وآليات لمساءلة القرارات الآلية، وضمان عدم تحيزها ضد فئات أو مناطق بعينها. وتكتسب العدالة المائية أهمية خاصة في البيئات التي تعاني تفاوتاً اجتماعياً أو جغرافياً، إذ يمكن للنماذج الخاطئة أن تفاقم الفجوات إذا لم تُراجع باستمرار وتخضع للتدقيق.
كما ينبغي وضع أطر تنظيمية تشجع على مشاركة البيانات بين الجهات المعنية مع احترام الخصوصية، وتمكين المجتمع المدني والباحثين من الاطلاع على المؤشرات الأساسية، بما يرسخ الثقة ويتيح تصحيح المسار عند الحاجة. إن بناء منظومات موثوقة يتطلب إشراك المستخدم النهائي من مزارعين وسكان والقائمين على الصناعات في تصميم الحلول وتقييمها.
الأمن السيبراني وحماية البنية الرقمية للمياه الذكية
تتطلب الشبكات الذكية للمياه بنية تحتية رقمية قوية وآمنة. فالهجمات السيبرانية على محطات الضخ والمعالجة، أو على نظم القياس والتحكم، قد تقود إلى أعطال خطيرة أو تلاعب في البيانات الحساسة. لذلك لا بد من تطبيق معايير صارمة للأمن السيبراني تشمل التشفير الشامل للبيانات، والهوية الرقمية متعددة العوامل، وتقسيم الشبكات، والمراقبة المستمرة، وخطط الاستجابة للحوادث، والتدريب الدوري للكوادر. ومن المهم كذلك الإبقاء على الوظائف بشرية احتياطية لخطط التشغيل الطارئة لضمان استمرارية الخدمة عند انقطاع الأنظمة الذكية.
التعاون العابر للحدود وتقليل النزاعات المائية
تتشارك دول كثيرة أحواضاً نهرية ومخزونات جوفية تمتد عبر الحدود. وقد شكّلت هذه الموارد محور توترات تاريخية. يتيح الذكاء الاصطناعي عندما يقترن ببيانات موثوقة وشفافة فرصة لتقليل النزاعات من خلال منصات مشتركة لتبادل المعلومات، ونماذج توافقية لتخصيص المياه وفق سيناريوهات الهطول والطلب. ويمكن لهذه الأدوات أن تقدم قرارات عادلة تُظهر مكاسب كل طرف تحت شروط مختلفة، ما يعزز التفاوض القائم على الأدلة بدلاً من المواقف السياسية الغير مرنة. ويسهم ذلك في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما الهدف السادس المتعلق بالمياه، والهدف السابع عشر الخاص بالشراكات.
نحو إدارة مائية مستدامة قائمة على الذكاء الاصطناعي
تمثّل إدارة الموارد المائية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تحولاً حضارياً يوازن بين التقنية والطبيعة، وبين التنمية والبيئة. فهي لا تقتصر على معالجة النقص، بل تعيد تعريف الإدارة برمتها لتكون مبنية على التنبؤ، والدقة، والشفافية، والاستدامة. ومما لا شك فيه وجود تحديات تقنية وتنظيمية ومجتمعية، غير أن فرص النجاح كبيرة للدول والمؤسسات التي تستثمر بوعي، وتخطط للمستقبل، وتضع الإنسان والبيئة في صميم القرار.
إن دمج الذكاء الاصطناعي في منظومات المياه يعني مستقبلاً تُتَّخذ فيه القرارات على أساس الأدلة، وتُدار فيه المخاطر قبل وقوعها، وتُستخدم فيه الموارد بكفاءة وعدالة. وكما أحدثت الثورة الصناعية نقلة نوعية في الإنتاج، فإن الثورة الرقمية اليوم قادرة على إحداث نقلة نوعية في علاقتنا بأغلى مورد للحياة. إنها ليست مجرد تقنية جديدة، بل نقلة تاريخية تضعنا أمام فرصة فريدة لبناء عالم أكثر مرونة وإنصافاً واستدامة، حيث تصبح كل قطرة ماء محسوبة القيمة، ويصبح كل قرار بيئي خطوة واعية نحو استدامة الحياة.
سجل في قائمتنا البريدية لتصلك آخر الأخبار