نضال أبو زكي , مدير عام “مجموعة أورينت بلانيت” يتساءل هل تكتب الأزمة العالمية نهاية المشروع الأوروبي؟
الاقتصاد الأوروبي أمام مفترق طرق في مواجهة “كوفيد-19”
في الوقت الذي دعت فيه “منظمة الصحة العالمية” دول العالم إلى الاستعداد لجائحة “طويلة الأمد“،
ومن هنا تتزايد المخاوف اليوم من ظهور موجة ثانية من فيروس “كوفيد-19” في أوروبا،
الأمر الذى وضع الاتحاد الأوروبي تحت وطأة تحديات اقتصادية واجتماعية جمّة، لا سيّما مع غياب التعاون في مواجهة الأزمة غير المسبوقة، والتي أظهرت التصدّع العميق في أسس المشروع الأوروبي. ويبرز فيروس “كورونا””كوفيد-19” باعتباره أشد خطراً على الاقتصاد الأوروبي مقارنةً بالتداعيات الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمعروف بـ “بريكست”، والهجرة وأزمة الديون السيادية، ما قد يجعل الركود الاقتصادي أمراً حتمياً لا مفر منه.
وكشفت جائحة “كوفيد-19” عن الانقسام الذي يعاني منه الاتحاد الأوروبي، وبالأخص بعد التصدعات التي خلّفتها أزمة الديون السيادية التي بدأت في عام 2009، ولم يصلحها عقد كامل من سياسات وإجراءات اتخذتها دول منطقة اليورو. كما أعادت الاستجابة البطيئة تجاه هذه الأزمة، بتداعياتها الصحية والاقتصادية، إشعال فتيل التوتر السياسي بين الدول الأوروبية ومسائل السلطة واتخاذ القرار.
ومما لا شك فيه بأن جائحة الفيروس التاجي هزت الاتحاد الأوروبي بعمق، وكشفت عن نقاط ضعفه التي تجلت بمحدودية قوانينه والانقسامات السياسية والاقتصادية العميقة التي طالما عانى منها الاتحاد منذ عقد على الأقل.
وفي الأيام الأولى لانتشار الجائحة وخاصة مع ظهور إسبانيا وإيطاليا على رأس الدول الأكثر تضرراً، عمدت الدول الأعضاء إلى إغلاق الحدود وأوقفت عملية تداول السلع الأساسية بينها،وهو الأمر الذي نظرت إليه كلاً من إيطاليا وإسبانيا على أنه عملية تخلٍ عنهما وخذلان لهما، بينما كان الاتحاد الأوروبي يكافح للحصول على إجماع والخروج باستجابة صحية ترتقي لحجم الأزمة، لا سيما وأن النزعة الأولية التي أبدتها الدول الأعضاء في تفضيل الذات واعتماد مصلحة الدولة المعنية عوضاً عن المصلحة الجماعية، أثارت مخاوف الأوروبيين من عدم قدرة الاتحاد على إدارة أزمة صحية بهذا المستوى بالنظر إلى قدراته المحدودة. إلا أنه ومع ظهور التداعيات الاقتصادية للأزمة أصبح الشك يدور الآن حول قدرة الاتحاد على إدارة التبعات الاقتصادية الضخمة واستجابة أوروبا الاقتصادية لأزمة بهذا العمق. فالأزمة التي بدأت على أنها تهديد صحي تحولت اليوم إلى تحدٍ اقتصادي ونقدي وسياسي.
ومنذ بداية الأزمة، أدرك الجميع بأن أزمة الفيروس التاجي ليست كأية أزمة سبقتها وأنها ستكون الأسوأ منذ قرن من الزمن. ولكن تتفاوت حدة أثار هذه الأزمة على المستويات الاجتماعية والصحية والاقتصادية عبر مختلف الدول الأعضاء وذلك تبعاً إلى قدراتها المالية المختلفة المخصصة لدعم اقتصاداتها. إلا أنه وفي بداية الأزمة تعالت الصرخات المطالبة باستجابة الاتحاد الأوروبي وإبداء التضامن المطلوب بين أعضائه، والذي لم يظهر في ذلك الوقت ودفع بدول مثل إيطاليا وإسبانيا لتطلب يد العون من الصين وروسيا عوضاً عن شركائهم في الاتحاد. إلا أن الوضع لم يستمر على هذا الحال طويلاً، فقد قامت ألمانيا بإرسال الكمامات والمعدات الطبية إلى إيطاليا، وعمدت آلية الحماية المدنية بالاتحاد الأوروبي إلى إرسال أطباء وممرضات إلى المناطق الأكثر تضرراً مع فتح دول كألمانيا وفرنسا مستشفياتها في وجه الدول الأكثر تضرراً وتقديم العديد من المساعدات التي توالت بعد ذلك.
لقد أبرزت الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات وحالات الطوارئ ملامح السياسة الاقتصادية الأوروبية على مدار عقد من الزمن. وجرى تغيير قانون الاتحاد الأوروبي خلال الأزمات لدعم التركيز على السلطات التنفيذية، بحيث يتمتع بالسلطة اللازمة للتعامل مع حالة الطوارئ والحفاظ قدر الإمكان على الأسس السياسية والاقتصادية الأساسية التي تم بناء الاتحاد النقدي الأوروبي عليها، وهي الميزانيات بلا عجز واستقرار الأسعار بدعم من بنك مركزي يتمتع بمحدودية السلطة في إدارة وسن القوانين المالية. وفي حال عجزت تلك الأسس عن الصمود في وجه الجائحة، فإن اتحاد النقد الأوروبي سيواجه تحدياً كبيراً يهدد بانهياره.
و الاحتفاظ بالاستقرار المالي في الظروف الراهنة أمر يتطلب مرونة في السياسة المالية. إلا أنه يستحيل تحقيق ذلك في ظل تباين قدرات الدول الأعضاء وخططهم المالية. لذا أقرت المفوضية الأوروبية وهي الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، اتخاذ قرار غير مسبوق وهو تفعيل “الشرط أو البند الوقائي” بعدم الالتزام بقواعد ميثاق الاستقرار النقدي والنمو الأوروبي التي تقر سقف الحد الأقصى المسموح به لمعدل عجز الميزانية ومعدل الدين العام لدول الاتحاد الأوروبي. كما منحت المفوضية حكومات الاتحاد المرونة الكاملة التي تتيحها قواعد السياسة المالية إلى جانب السماح بتقديم الدول دعماً للشركات المتعثرة. ومن هنا تأتي أهمية تفعيل بند الطوارئ لتمكين هذه الحكومات للقيام بالتحرك وزيادة الإنفاق العام في مواجهة تداعيات أزمة كورونا.
وللمرة الأولى منذ نشأة الاتحاد وقيام الدول الأوروبية بتنسيق سياساتها الاقتصادية، لن تحتاج الدول الأعضاء إلى الامتثال لبند “إبقاء العجز الحكومي أقل من ثلاثة بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي والديون الحكومية أقل من 60 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي”، وذلك للفترة التي تستدعي فيها الحالة. وفي حال تمكنت المفوضية من الاستمرار في توفير هذه المرونة في إطار ميثاق الاستقرار النقدي والنمو الأوروبي، فإن المعيار الذي ستنسق الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي على أساسه إجراءاتها سيختلف عن “القاعدة الذهبية” العرفية، التي تتطلب من الدول الأعضاء الحفاظ على أوجه العجز أدناه 0.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وتأتي هذه النقطة في صالح المتفائلين من خروج سالم وآثار إيجابية لهذه الأزمة على الرغم من صعوبة التنبؤ بها في الوقت الحالي، ولكن قد تفسر هذه المرونة التي كان يصعب تحقيقها على أنها خطوة أولى للتحول النموذجي في السياسة الاقتصادية الأوروبية.
وكان قد ، عمد البنك المركزي الأوروبي إلى زيادة صلاحيته المحدودة بشكل استثنائي، وذلك لتقويض التداعيات الاقتصادية ومحاولة الحفاظ على الاستقرار المالي. ويعد برنامج شراء الطوارئ الوبائية المخصص لشراء الديون السيادية وديون الشركات، من الإجراءات النقدية غير العادية التي تسببت في اضطرابات سياسية وقانونية في الماضي. ولكن بعد تردد طويل أعلن البنك المركزي الأوروبي أنبرنامج شراء الديون في حالات الطوارئ سيستمر باستمرار الأزمة وسيتم تسخيره بصورة مرنة.
وأشار البنك المركزي الأوروبي إلى أن المرونة هي المفتاح هنا، أي أنه يمكن مراجعة البرنامج “بالقدر الضروري لجعل عمله يتناسب مع المخاطر المحدقة” مع مراعاة السلاسة في تحويل السياسة النقدية. إلا أن الخوف يبقى محيط بمصير هذه الخطة من تدخل محكمة العدل الخاصة بالاتحاد الأوروبي كما حصل في عام 2012 عندما شككت المحكمة بمشروعية برنامج المعاملات النقدية المباشرة والذي تم تطبيقه من قبل البنك المركزي الأوروبي بهدف الحفاظ على منطقة اليورو من مخاطر التفكك. ولكن مع حصول البنك المركزي خلال تطبيقه هذا البرنامج على دعم من الاتحاد الأوروبي سيقلل من احتمالات أن تقف محكمة العدل في طريقه.
وبعد سلسلة من المحاولات الفاشلة، أحرز الاتحاد الأوروبي بعض التقدم فيما يتعلق بدعم اقتصاد الدول الأعضاء، مع بقاء الانقسامات السياسية العميقة بين هذه الدول كعائق أمام الحلول الممكنة لتحقيق المساعدة والمنفعة المتبادلة. ويبقى الصراع الرئيسي اليوم هو حول إمكانية نقل الموارد الاقتصادية بين الدول الأعضاء، وهو الأمر المحظور حالياً بموجب قانون الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من احتمال تجاوز القادة الأوروبيون لتداعيات هذه الأزمة بعد انتهائها، إلا أن التكاليف السياسية للقيود القانونية التي فرضها الاتحاد الأوروبي قبل الأزمة قد تكون باهظة الثمن، حيث من المرجح أن تؤدي هذه الأزمة إلى تفاقم الانقسامات العميقة داخل منطقة اليورو وتفضي بالتالي إلى عواقب سياسية لا يمكن التنبؤ بها.
ويبقى أمام القادة الأوروبيين اختبار صعب للغاية لإبراز روح التضامن مجدداً يتمثل في إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي بعد الأزمة، وهو ما سيضع سمعة الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية الموحدة على المحك. فقد أعرب أعضاء البرلمان الأوروبي خلال مناقشة عامة في 16 أبريل، أن الأوروبيين يتوقعون من الاتحاد الأوروبي والحكومات اتخاذ إجراءات حاسمة لتمهيد الطريق للخروج من الأزمة وبناء أوروبا أكثر مرونة. ويرى المراقبون للمناقشات بين الدول الأعضاء ولغة الخطاب من قبل أعضاء البرلمان الأوروبي، أن اللغة السائدة هي التضامن والإتيان بحلول جديدة وطموحة للتغلب على تفشي الفيروس التاجي والتحديات الاقتصادية الناتجة عنه. وهذا ما انعكس في خطاب رئيس البرلمان ديفيد ساسولي عندما قال “نريد الخروج من هذه الأزمة أقوى وأكثر مرونة “، وهو الخطاب الذي لاقى ترحيباً من معظم أعضاء البرلمان الأوروبي الذين رحبوا أيضاً بالخطط التي أعلنت عنها فون دير لين، رئيسة المفوضية الأوروبية، والتي تنص على استثمارات ضخمة بهدف إنشاء اقتصاد أكثر مرونة. وسلطت فون دير لين الضوء على الدور الحاسم الذي ستلعبه ميزانية طويلة الأجل للاتحاد الأوروبي، حيث أشارت أيضاً إلى الحاجة إلى خطة مارشال جديدة، في إشارة إلى البرنامج الذي ساعد في إعادة بناء اقتصادات الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.